فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال المبرد: معناه فلمّا تجلّى ربّه آية للجبل جعله فعلًا متعدّيًا كالتخلّص والتبدّل والتوعد.
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من وراء سبعين ألف حجاب ضوءًا قدر الدرهم فجعل الجبل دكًا.
وقال أبو بكر: فَعَذُب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض. وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس. وخرت الأصنام لوجهها {جَعَلَهُ دَكًّا} مستويًا بالأرض. وقال ابن عباس: جعله ترابًا.
عن معونة بن قرّة عن أنس بن مالك قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}: طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان، ورضوى. ووقع ثلاثة بمكّة ثور وثبيرة وحراء».
واختلفت القراءة في هذا الحرف، وقرأ عاصم {دَكًّا} بالقصر والتنوين. والتي في الكهف بالمد، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير {دكاء} ممدودة غير مجراه في التنوين.
وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة. وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكًا. والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات، لقولهم: كلام رقيق وركيك، ويجوز أن يكون معناه: دكه الله دكًا أي فتّه الله أغبارًا لقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكًّا} [الفجر: 21] وقوله: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14].
قال حميد:
يدك أركان الجبال هزمه ** تخطر بالبيض الرقاق بهمه

ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام. وحينئذ يكون معناه: جعله أيضًا دكاء، أي مستوية لا شيء فيها، لأن الجبل مذكر، هذا قول أهل الكوفة.
وقال نحاة البصرة: معناه فجعله مثل دكًّا وحذف مثل فأجرى مجرى {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] قال الأخفش: من مدّ قال في الجمع: دكاوات، وذلك مثل حمراوات وحمرة، ومن قال: أرض دك، قال في الجمع: دكوك، {وَخَرَّ} أي وقع {موسى صَعِقًا} قال ابن عباس: فغشي عليه، وقال قتادة: ميّتًا.
وقال الكلبي: خرّ موسى صعقًا يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر.
وقال الواقدي: لما خرَّ موسى صعقًا قالت ملائكة السماوات: ما لابن عمران وسؤاله الرؤية؟!
وفي بعض الكتب أنّ ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يابن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربّ العزّة.
{فَلَمَّا أَفَاقَ} من صعقته وعقله عرف أنّه قد فعل أمرًا لا ينبغي فعله {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤالي الرؤية {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا تُرى في الدنيا قال السدي ومجاهد: وأنا أوّل مَنْ آمن بك من بني إسرائيل.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يحكي عن الجنيد أنه قال: جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعقله نيتي، فأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية [......].
قال ابن عباس: لمّا سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه: ما تبتغي؟ قال: جئت أبتغي الهدي. قال قد وجدته يا موسى، فقال موسى: يارب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: أي عبادك أقصى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهُدى ويرد سنن ردىء.
وقال عبد الله بن مسعود: لمّا قرب الله موسى بطور سيناء رأى عبدًا في ظلّ العرش جالسًا فقال: [ما هذا]، قال: هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله وبرّ بوالديه ولا يمشي بالنميمة.
فقال موسى: يارب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي. فقال: قد كفيت ذلك يا موسى، قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني ولا تنساني، قال: أي عبادك خير عملًا؟ قال: مَنْ لا يُكذّب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه وهو ذو خلق حسن، قال: فأي عبادك شر عملًا؟ قال: فاجر في خلق سيء جيفة ليل بطال النهار. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {... قَالَ رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إِلَيْكَ} الآية، في سؤال موسى ذلك لربه ثلاثة أقاويل:
أحدها: ليرد عليه من جواب الله ما يحتج به على قومه حين قالوا: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] مع علم موسى بأنه لا يجوز أن يراه في الدنيا.
والثاني: أنه كان يعلم ذلك باستدلال فأجب أن يعلمه ضرورة.
والثالث: أنه جوّز ذلك وظنه وأن رؤيته في الدنيا ممكنة، قاله الحسن، والربيع، والسدي.
فأجابه الله بأن {قَالَ لَن تَرَانِي}.
ثم أظهر في الجواب ما يعلم به استحالة مسألته فقال: {وَلَكِن انظُرْ إلىَ الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} لأن الجبل إذا لم يستقر لرؤيته فالإنسان بذلك أولى.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للِجَبَلِ} معنى تجلى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت، ومن جلاء المرآة إذا أضاءت.
وفي تجليه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل.
والثاني: أنه أظهر للجبل من ملكوته ما تدكدك به، لأن الدنيا لا تقوم لما يبرز من ملكوت السماء.
والثالث: أنه أبرز قدر الخنصر من العرش.
والرابع: ظهر أمره للجبل.
{جَعَلَهُ دَكًّا} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: يعني مستويًا بالأرض، مأخوذ من قولهم ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام، قاله ابن قتيبة وابن عيسى.
والثاني: أنه ساخ في الأرض، قاله الحسن وسفيان.
والثالث: أنه صار ترابًا، قاله ابن عباس.
والرابع: أنه صار قطعًا.
قال مقاتل: وكان أعظم جبل بمدين تقطع ست قطع تفرقت في الأرض، صار منها بمكة ثلاثة أجبل: ثبير وغار ثور وحراء. وبالمدينة ثلاثة أجبل: رضوى وأحد وورقان. والله أعلم.
{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} فيه قولان:
أحدهما: ميتًا، قاله قتادة.
والثاني: مغشيًا عليه، قاله ابن عباس، والحسن، ابن زيد.
قال ابن عباس: أخذته الغشية الخميس من يوم عرفة وأفاق عشية الجمعة وفيه نزلت عليه التوراة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة، وفيها عشر آيات أنزلها الله في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة من سورة بني إسرائيل.
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها.
والثاني: أنه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدنيا.
والثالث: أنه قال ذلك على جهة التسبيح وعادة المؤمنين عند ظهور الآيات. الدالة على عظيم قدرته.
{وَأَنَّاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان:
أحدهما: أول المؤمنين بأنه لا يراك شيء من خلقك، قاله ابن عباس، والحسن:
والثاني: وأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حد له وفي الوقت الذي عين له وكلمه ربه قال تمنيًا منه أي {رب أرني أنظر إليك} وقرأ الجمهور: {أرِني} بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أرْني} بسكون الراء، والمعنى في قوله: {كلمه} أي خلق له إدراكًا سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح، وكلام الله عز وجلّ لا يشبه شيئًا من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات وما هو موجود لا كالموجودات، ومعلوم لا كالمعلومات، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث، والواو عاطفة {كلمه} على {جاء}، ويحتمل أن تكون واو الحال والأول أبين، وقال وهب بن منبه كلم الله موسى في ألف مقام كان يرى نور على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام، وما قرب موسى النساء منذ كلمة الله تعالى، وجواب {لما} في قوله: {قال}، والمعنى أنه لما {كلمه} وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشويق إلى ذلك، فسأل ربه أن يريد نفسه، قاله السدي وأبو بكر الهذلي، وقال الربيع: قربناه نجيًا حتى سمع صريف الأقلام، ورؤية الله عز وجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلًا، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته، قالوا لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تعالى في الآخرة نصًا ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالًا وإنما سأل جائزًا.
وقوله تعالى: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} الآية ليس بجواب من سأل محالًا، وقد قال تعالى لنوح: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] فلو سأل موسى محالًا لكان في الكلام زجر ما وتبيين، وقوله عز وجل: {لن تراني} نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا، و{لن} تنفي الفعل المستقبل ولو بقينا مع هذا النفي بمجردة لقضينا أنه لا يراه موسى أبدًا ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، وقال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال لموسى لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فستمكنك أنت رؤيتي.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالًا وقالت فرقة: إنما المعنى سأتبدى لك على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني، وروي في كيفية وقوف موسى وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه.
قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}.
قال المتأولون المتكلمون كالقاضي ابن الباقلاني وغيره: إن الله عز وجل خلق للجبل حياة وحسًا وإدراكًا يرى به، ثم تجلى له أي ظهر وبدا سلطانه فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق، وهذا المعنى هو المروي عن ابن عباس، وأسند الطبري عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا} قال: فوضع الإبهام قريبًا عن خنصره قال فساخ الجبل، فقال حميد لثابت: تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس، وأكتمه أنا؟ وقالت فرقة: المعنى فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل.